فصل: باب قول الله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها} (النحل:83).

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب قول الله تعالى: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها} [النحل:83].

قوله تعالى: {يعرفون}. أي: يدركون بحواسهم أن النعمة من عند الله.
قوله: {نعمة الله}. واحدة والمراد بها الجمع، فهي ليست واحدة، بل هي لا تحصى، قال تعالى: {وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} [إبراهيم: 34]، والقاعدة الأصولية: أن المفرد المضاف يعم، والنعمة تكون بجلب المحبوبات، وتطلق أحيانًا على رفع المكروهات.
قوله: {ثم ينكرونها}. أي: ينكرون إضافتها إلى الله لكونهم يضيفونها إلى السبب متناسين المسبب الذي هو الله- سبحانه-، وليس المعنى أنهم ينكرون هذه النعمة، مثل أن يقولوا: ما جاءنا مطر أو ولد أو صحة، ولكن ينكرونها بإضافتها إلى غير الله، متناسبين الذي خلق السبب فوجد به المسبب.
قوله: (الآية). أي: إلى آخر الآية، وهي منصوبة بفعل محذوف تقديره أكمل الآية.
قوله: {وأكثرهم الكافرون}. أي أكثر العارفين بأن النعمة من الله الكافرون، أي الجاحدون كونها من الله، أو الكافرون بالله عز وجل.
وقوله: {أكثرهم} بعد قوله: {يعرفون} الجملة الأولى أضافها إلى الكل، والثانية أضافها إلى الأكثر، وذلك لأن منهم من هو عامي لا يعرف ولا يفهم، ولكن أكثرهم يعرفون ثم يكفرون.
* مناسبة هذا الباب للتوحيد:
أن من أضاف نعمة الخالق إلى غيره، فقد جعل معه شريكًا في الربوبية، لأنه أضافها إلى السبب على أنه فاعل، هذا من وجه، ومن وجه آخر: أنه لم يقم بالشكر الذي هو عبادة من العبادات، وترك الشكر مناف للتوحيد، لأن الواجب أن يشكر الخالق المنعم- سبحانه وتعالى-، فصارت لها صلة بتوحيد الربوبية وبتوحيد العبادة إضافتها إلى السبب على أنه فاعل هذا إخلال بتوحيد الربوبية، ومن حيث ترك القيام بالشكر الذي هو العبادة هذا إخلال بتوحيد الألوهية.
قال مجاهد ما معناه: (هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي).
قوله: (قال مجاهد). هو إمام المفسرين في التابعين، عرض المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما يوقفه عن كل آية ويسأله عن تفسيرها، وقال سفيان الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، أي: كافيك، ومع هذا، فليس معصومًا عن الخطأ.
قوله: (ما معناه). أي: كلامًا معناه، وعلى هذا فـ: (ما): نكرة موصوفة، وفيه أن الشيخ رحمة الله لم ينقله بلفظه.
قوله: (هو قول الرجل). هذا من باب التغليب والتشريف، لأن الرجل أشرف من المرأة وأحق بتوجيه الخطاب إليه منها، وإلا، فالحكم واحد.
قوله: (هذا مالي ورثته عن آبائي). ظاهر هذه الكلمة أنه لا شيء فيها، فلو قال لك واحد: من أين لك هذا البيت؟ قلت: ورثته عن آبائي، فليس فيه شيء لأنه خبر محض.
لكن مراد مجاهد أن يضيف القائل تملكه للمال إلى السبب الذي هو الإرث متناسيًا المسبب الذي هو الله، فبتقدير الله- عز وجل- أنعم على آبائك وملكوا هذا البيت، وبشرع الله- عز وجل- انتقل هذا البيت إلى ملكك عن طريق الإرث-، فكيف تتناسي المسبب للأسباب القدرية والشرعية فتضيف الأمر إلى ملك آبائك وإرثك إياه بعدهم؟! فمن هنا صار هذا القول نوعًا من كفر النعمة.
أما إذا كان قصد الإنسان مجرد الخبر كما سبق، فلا شيء في ذلك ولهذا ثبت أن النبي قيل له يوم الفتح: (أتنزل في دارك غدًا؟) فقال: «وهل ترك لنا عقيل من دار أو رباع» فبين أن هذه الدور انتقلت إلى عقيل بالإرث.
فتبين أن هناك فرقًا بين إضافة الملك إلى الإنسان على سبيل الخبر، وبين إضافته إلى سببه متناسيًا المسبب وهو الله عز وجل.
وقال عون بن عبد الله: (يقولون: لولا فلان، لم يكن كذا).
قوله: (وقال عون بن عبد الله: يقولون لولا فلان لم يكن كذا).
وهذا القول من قائله فيه تفصيل إن أراد به الخبر وكان الخبر صدقًا مطابقًا للواقع، فهذا لا بأس به، وإن أراد بها السبب، فلذلك ثلاث حالات:
الأولى: أن يكون سببًا خفيًّا لا تأثير له إطلاقًا، كأن يقول: لولا الولي الفلاني ما حصل كذا وكذا، فهذا شرك أكبر لأنه يعتقد بهذا القول أن لهذا الولي تصرفًا في الكون مع أنه ميت، فهو تصرف سري خفي.
الثانية: أن يضيفه إلى سبب صحيح ثابت شرعًا أو حسًا، فهذا جائز بشرط أن لا يعتقد أن السبب مؤثر بنفسه، وأن لا يتناسي المنعم بذلك.
الثالثة: أن يضيفه إلى سبب ظاهر، لكن لم يثبت كونه سببًا لا شرعًا ولا حسًّا، فهذا نوع من الشرك الأصغر، وذلك مثل: التوله، والقلائد التي يقال أنها تمنع العين، وما أشبه ذلك، لأنه أثبت سببًا لم يجعله الله سببا، فكان مشاركًا لله في إثبات الأسباب.
ويدل لهذا التفصيل أنه ثبت إضافة (لولا) إلى السبب وحده بقول النبي في عمه أبي طالب: «لولا أنا، لكان في الدرك الأسفل من النار»، ولا شك أن النبي أبعد الناس عن الشرك، وأخلص الناس توحيدًا لله تعالى، فأضاف النبي الشيء إلى سببه، لكنه شرعي حقيقي، فإنه أذن له بالشفاعة لعمه بأن يخفف عنه، فكان في ضحضاح من النار، عليه نعلان يغلي منهما دماغه لا يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا، لأنه لو يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا أو مثله هان عليه بالتسلى، كما قالت الخنساء في رثاء أخيها صخر:
ولولا كثرة الباكين حولي ** على إخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن ** أسلي النفس عنه بالتأسي

وابن القيم رحمه الله- وإن كان قول العالم ليس بحجة لكن يستأنس به- قال في القصيدة اليمية يمدح الصحابة:
أولئك أتباع النبي وحزبه ** ولولا همو ما كان في الأرض مسلم

ولولا همو كادت تميد بأهلها ** ولكن رواسيها وأوتادها هم

ولولا همو كانت ظلامًا بأهلها ** ولكن همو فيها بدور وأنجم

فأضاف (لولا) إلى سبب صحيح.
قوله: (وقال ابن قتيبة: يقولون هذا بشفاعة آلهتنا). هؤلاء أخبث ممن سبقهم، لأنهم مشركون يعبدون غير الله، ثم يقولون: إن هذا النعم حصلت بشفاعة آلهتهم، فالعزى مثلًا شفعت عند الله أن ينزل المطر، فهؤلاء أثبتوا سببًا من أبطل الأسباب لأن الله- عز وجل- لا يقبل شفاعة ألهتهم، لأن الشفاعة لا تنفع إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولًا، والله- عز وجل- لا يأذن لهذه الأصنام بالشفاعة، فهذا أبطل من الذي قبله لأن فيه محذورين:
1- الشرك بهذه الأصنام.
2- إثبات سبب غير صحيح.
وقال أبو العباس- بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: «أن الله تعالى قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر..» الحديث، وقد تقدم:- (وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به).
قوله: (وقال أبو العباس). هو شيخ الإسلام أحمد بن تيمية.
قوله: (وهذا كثير في الكتاب والسنة يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره..) وذلك مثل الاستسقاء بالأنواء، وإنما كان هذا مذمومًا، لأنه لو أتى إليك عبد فلان بهدية من سيده فشكرت العبد دون السيد، كان هذا سوء أدب مع السيد وكفرانًا لنعمته، وأقبح من هذا لو أضفت النعمة إلى السبب دون الخالق، لما يأتي:
1- أن الخالق لهذه الأسباب هو الله، فكان الواجب أن يشكر وتضاف النعمة إليه.
2- أن السبب قد لا يؤثر، كما ثبت في (صحيح مسلم) أنه قال: «ليس السنة أن لا تمطروا، ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا، ولا تنبت الأرض شيئًا».
3- أن السبب قد يكون له مانع يمنع من تأثيره، وبهذا عرف بطلان إضافة الشيء إلى سببه دون الالتفات إلى المسبب جل وعلا.
قال بعض السلف: هو كقولهم كانت الريح طيبة والملاح حاذقًا ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثيرة.
قوله: (كانت الريح طيبة). هذا في السفن الشراعية التي تجري بالريح، قال تعالى: {حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها} [يونس: 22]، فكانوا إذا طاب سير السفينة قالوا: كانت الريح طيبة، وكان الملاح- هو قائد السفينة حاذقًا، أي: مجيدًا للقيادة، فيضيفون الشيء إلى سببه وينسون الخالق جل وعلا.
* فيه مسائل:
الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها. الثانية: معرفة أن هذا جار على ألسنة كثيرة. الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكارًا للنعمة. الرابعة: اجتماع الضدين في القلب.
فيه مسائل:
* الأولى: تفسير معرفة النعمة وإنكارها، وسبق ذلك.
* الثانية: معرفة أن هذا جار على ألسنة كثيرة. وذلك مثل قول بعضهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقًا، وما أشبه ذلك.
* الثالثة: تسمية هذا الكلام إنكارًا للنعمة. يعني: إنكارًا لتفضل الله تعالى بها وليس إنكارًا لوجودها، لأنهم يعرفونها ويحسون بوجودها.
* الرابعة: اجتماع الضدين في القلب. وهذا من قوله: {يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها}، فجمع بين المعرفة والإنكار، وهذا كما يجتمع في الشخص الواحد خصلة إيمان وخصلة كفر، وخصلة فسوق وخصلة عدالة.